فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: قال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء، وبالآية الأولى الثيب، وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين.
قالوا: ويدل على هذا التفسير وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} فأضافهن إلى الأزواج.
والثاني: أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب.
والثالث: أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب.
والرابع: قال الحسن: هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير: واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما.
ثم نزل قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت} [النساء: 15] يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن، وهذا القول عندي في غاية البعد، لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات.
الخامس: ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات، وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره.
والسادس: أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لابد وأن يكونوا أربعة، فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الإمام والحد، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما. اهـ.

.قال القرطبي:

قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير.
وقالت فرقة: هو السبّ والجفاء دون تعيير.
ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال.
قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ.
قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة} و{واللذان يأتيانها} كان في أوّل الأمر فنسختهما الآية التي في النور.
قاله النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدّبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأمّا قوله: {واللذان يأتيانها} فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله: {واللاّتي يأتين الفاحشة} ولا شكّ أنّ المراد بـ {اللذان} صنفان من الرجال: وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر.
ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين.
ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدّي وقتادة، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنى، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون.
وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين: عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى.
وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة {نسائكم}.
وضمير النصب في قوله: {يأتيانها} عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا.
ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك.
والإيذاء: الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ، فهو أعمّ من الجلد، والآية أجملته، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم.
وقد اختلف أيمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية: فقال ابن عباس، ومجاهد: اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكرًا كانت أم ثيّبا، وقوله: {واللذان} تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم، فاستفيد التعميم في الحالتين إلاّ أن استفادته في الأولى من صيغة العموم، وفي الثانية من انحصار النوعين، وقد كان يغني أن يقال: واللاتي يأتين، والذين يأتون، إلاّ أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين.
وجُعل لفظ (اللاتى) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط.
وجعل لفظ و{اللذان} للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكَّر مثل الشخص، ونحو ذلك، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه.
والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد، لأنّه لم يشرع بعدُ، فقيل: هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير.
وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال، بناء على تأويله أنّ الآيةَ شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد. اهـ.

.قال الفخر:

اتفقوا على أنه لابد في تحقيق هذا الإيذاء من الإيذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير، مثل أن يقال: بئس ما فعلتما، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة، وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة.
واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب؟ فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال، والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الإيذاء، وذلك حاصل بمجرد الإيذاء باللسان، ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير إليه. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلفوا في نفي البكر مع الجلد؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد؛ قاله الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
والحجة للجمهور حديث عُبادة المذكور، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، حديث العَسِيف وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك» وجلد ابنه مائة وغرّبه عامًا. أخرجه الأئمة.
احتج من لم ير نفيه بحديث أبي هريرة في الأَمَةَ.
ذكر فيه الجلد دون النفي.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب قال: غرّب عمر ربيعة بن أبي أُمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بِهَرْقل فتنصَّر؛ فقال عمر: لا أغرّب مسلمًا بعد هذا.
قالوا: ولو كان التغريب حَدًّا لله تعالى ما تركه عمر بعدُ.
ثم إن النص الذي في الكتاب إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ؛ فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد.
والجواب: أمّا حديث أبي هريرة فإنَّما هو في الإماء لا في الأحرار وقد صحّ عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أَمَتَه في الزنا ونفاها.
وأما حديث عمر وقوله: لا أغرب بعده مسلمًا، فيعني في الخمر والله أعلم لما رواه نافع عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب وغرّب، وأن أبا بكر ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرب.
أخرجه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه عن أبي كريب محمد بن العلا الهمْدانِيّ عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع.
قال الدارقطنيّ: تفرّد به عبد الله بن إدريس ولم يسنده عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام لأحد معه، ومن خالفته السنة خاصمته. وبالله التوفيق.
وأما قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلّم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل.
ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء، واشترط الفقر في القُرْبَى؛ إلى غير ذلك مما ليس منصوصًا عليه في القرآن.
وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي.
القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكَر الحرّ، واختلفوا في تغريب العبد والأُمة؛ فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فَدَك وبه قال الشافعيّ وأبو ثور والثوري والطبريّ وداود.
واختلف قول الشافعيّ في نفي العبد، فمرّة قال: أستخير الله في نفي العبد، ومرة قال: ينفى نصف سنة، ومرة قال: ينفى سنة إلى غير بلده؛ وبه قال الطبري.
واختلف أيضًا قوله في نَفْي الأُمَة على قولين.
وقال مالك: يُنفى الرجل ولا تُنفى المرأة ولا العبد، ومن نُفي حُبس في الموضع الذي ينفى إليه.
وينفى من مصر إلى الحجاز وشَغْب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفَدَك؛ وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز.
ونفى عليّ من الكوفة إلى البصرة.
وقال الشافعيّ: أقل ذلك يوم وليلة.
قال ابن العربي: كان أصل النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثًا في الحرَم غُرِّب منه، فصارت سنّة فيهم يدينون بها؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدَثا غُرِّب عن بلده، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة.
احتج من لم ير النفي على العبد بحديث أبي هريرة في الأَمَّة؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدّة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني.
وأيضًا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد؛ فكذلك التغريب. والله أعلم.
والمرأة إذا غرِّبت ربما يكون ذلك سببًا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل.
وقال صلى الله عليه وسلم: «اعروا النساء يلزمن الحِجال» فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار.
وهو مختلف فيه عند الأُصوليين والنظار.
وشذت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويجلد الشاب؛ تمسكا بلفظ الشيخ في حديث زيد بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» خرّجه النسائي. وهذا فاسد؛ لأنه قد سماه في الحديث الآخر الثيب. اهـ.